من باريس إلى دبي وصولا إلى محكمة طنجة.. سبع سنوات سجنا تُسقط "مايس" في أكبر ملف عابر للحدود بين المغرب وفرنسا
تحول الحكم الصادر عن الغرفة الجنائية بمحكمة الاستئناف في طنجة في ليلة الخامس والعشرين من نونبر الجاري محطة مفصلية تداخلت فيها عوالم الراب والمال السريع وشبكات الجريمة المنظمة، مع حسابات العدالة في بلدين يتقاطعان في السجلات القضائية أكثر مما يتقاطعان في الخرائط الدبلوماسية.
سبع سنوات سجنا نافذا للرابور الفرنسي المغربي"مايس" واسمه الحقيقي وليد جورجي، بتهم تشكيل عصابة إجرامية، ومحاولة الاختطاف والاحتجاز، والتحريض على ارتكاب جنايات وجنح، هي الخلاصة القانونية لملفٍ يتجاوز حدود الواقعة الجنائية الصرفة ليطرح أسئلة عن الوجه المظلم لصناعة الموسيقى وعن موقع المغرب في حرب صامتة على اقتصاد العنف العابر للحدود.
وبدأت رحلة "مايس" إلى السجن المغربي عمليا، قبل سنوات من توقيفه في مطار محمد الخامس بالدار البيضاء في 22 يناير الماضي حين كان نجم الراب الصاعد من ضواحي باريس يراكم ملايين المشاهدات على يوتيوب ويقترب من قلب "الإمبراطورية" الموازية التي تربط بعض أوساط الراب الفرنسي بعوالم المخدرات والابتزاز وتصفية الحسابات.
لكن اللحظة الحاسمة جاءت مع صدور مذكرة توقيف دولية عن القضاء الفرنسي بعد تخلفه عن حضور محاكمة في قضية "عنف جماعي" تعود وقائعها إلى 2018 قرب أحد الاستوديوهات في ضاحية سين-سان-دوني، وهي القضية التي أُدين فيها غيابيا في يونيو 2024 بعشرة أشهر حبسا نافذا وغرامة قدرها 10 آلاف أورو، فيما كان هو قد اختار الاستقرار في دبي مع عائلته، متذرعا بـ"تهديدات" يتعرض لها في محيطه القديم.
غير أن اعتقاله في المغرب لم يكن كما أوضحت لاحقا تسريبات التحقيق، مجرد تنفيذ آلي لمذكرة التوقيف الفرنسية بل جاء متزامنا مع فتح تحقيق محلي في قضية أكثر خطورة تتعلق بالاشتباه في تحريضه على اختطاف وتعذيب شخص في مراكش، على خلفية نزاع مالي مرتبط بمداخيل حفلات موسيقية نظمت في عدد من الدول.
وانطلقت خيوط الملف من تواصل بين "مايس" ورجل يُشتبه في أنه زعيم مجموعة إجرامية وصاحب مقهى للشيشا في فاس، حيث طُلب منه إعداد "عملية تأديبية" ضد شخص يعتبره الرابور خصما له ويُفترض أن يستدرج إلى مراكش ليتم اختطافه وتعنيفه، في انتظار وصول صاحب الطلب من الخارج.
ومن فاس إلى طنجة، تحرّكت خيوط القضية بسرعة غير معهودة في ملفات مماثلة إذ تشير رواية استندت إليها تقارير صحافية إلى أن اجتماعا عُقد داخل مقهى في طنجة ضم عناصر من "البانسر" (حراس أمن خاص) وأفرادا آخرين، لوضع اللمسات الأخيرة على خطة الاختطاف قبل الانتقال إلى مراكش لثلاثة أيام وفي سيناريو بدا قريبا من مشاهد الأفلام، تمكن الجناة بالفعل من اعتراض الضحية المزعومة عند خروجه من سيارته الفارهة، وكانوا في طريقهم لمغادرة المكان به حين تدخلت الشرطة بسرعة وأفشلت العملية واعتقلت المنفذين.
لاحقا، ستكشف عمليات تفتيش هواتف بعض المشتبه فيهم عن صور لكميات كبيرة من الحشيش وأسلحة نارية، وعن محادثات حول شراء مسدس وبندقية هجومية، إضافة إلى صورة لبحثٍ شرطي صادر عن المديرية العامة للأمن الوطني، التُقطت من شاشة مكتب إداري، وهو ما عزّز فرضية تشابك هذه الخلية مع شبكات تهريب مخدرات وسلاح.
في هذه الأثناء، كان "مايس" الذي يستمد جزءا من رمزيته من انتمائه المزدوج إلى الضواحي الباريسية وإلى الجالية المغربية، يعيش ما يشبه حلقة متقدمة من مسار الانجذاب إلى "الجانب المظلم" لصناعة الراب وهو كتاب صدر مؤخرا بعنوان "الإمبراطورية" خصص فصولا لموقعه داخل شبكة معقدة تجمع فنانين ورجال أعمال وفاعلين في الجريمة المنظمة، وتحدث عن الاشتباه في تورطه في التخطيط لعمليات انتقامية ضد من حاولوا ابتزازه في موطنه الأصلي سيفران، بل وحتى عن صلات محتملة بين بعض فرق الراب وشبكات المافيا المغربية والأوروبية العابرة للحدود.
ملف طنجة في هذا السياق، بدا كأنه لحظة "تقاطُع" بين مسارين قضائيين الأول فرنسي، يرتبط بعنف مسلح وتصفية حسابات في ضواحي باريس وبأوامر قتل مُفترضة صيغت من دبي عبر تطبيقات مشفّرة والثاني مغربي، يتعلّق بخطة اختطاف وتعذيب كادت أن تتحقق في شوارع مراكش قبل أن تُجهضها الشرطة.
وهنا المصادر المغربية تحدثت عن أن الرابور كان موضوعا رهن الاعتقال الاحتياطي لنحو عشرة أو أحد عشر شهرا قبل صدور الحكم، وأن لائحة المتابعين شملت عشرة متهمين آخرين، بينهم من حُكم عليه بعشر سنوات سجنا، وآخرون بخمس سنوات، وأحكام بالسجن الموقوف في حق بعض المتعاونين الثانويين.
أمام المحكمة، أنكر "مايس" كل التهم تقريبا، وقدم نفسه، وفق ما نقلته وسائل إعلام دولية، باعتباره فنانا وقع ضحية "ملف فارغ" لا يتضمّن دليلا مادّيا يربطه مباشرة بباقي المتهمين خاصة الشخص الذي قُدم باعتباره زعيم المجموعة ودفاعه تمسّك باعتبار الاتصالات والمحادثات التي استند إليها التحقيق مجرد "إشاعات" أو قراءات متعسفة لنزاع مالي عادي بين أشخاص يشتغلون في مجال الحفلات الفنية، لكن المحكمة لم تقتنع بهذه الرواية، واعتبرت أن العناصر المادية والمعنوية كافية لإدانته بتهم تكوّن عصابة إجرامية ومحاولة الاختطاف والاحتجاز والتحريض على ارتكاب أفعال إجرامية.
وفي نهاية مسار امتد لأشهر من التحقيقات والمواجهات القانونية، نطقت الغرفة الجنائية بمحكمة الاستئناف في طنجة بحكمها سبع سنوات سجنا نافذا في حق مايس وأحكاما تراوحت بين سنة وعشر سنوات في حق باقي المتهمين.
واعتبرت المحكمة أن الوثائق الرقمية، وحجج التحريض، وخطة الاستدراج التي كشفتها التحقيقات، تشكل منسوبا كافيا لإثبات جناية تكوين عصابة إجرامية ومحاولة الاختطاف والاحتجاز.
وبهذا الحكم بدا أن القضاء المغربي أراد أن يغلق دائرة أوسع تتقاطع فيها ملفات العنف المسلح في الضواحي الفرنسية مع تشعبات شبكات إجرامية تتنقل بين باريس ودبي والرباط ومن دون ضجيج سياسي، حملت الجلسة الأخيرة في طنجة تلميحا واضحا إلى قدرة البلدين على التقاطع قضائيا حين تتقاطع الوقائع وإلى أن شهرة الفنان أو جنسيته المزدوجة لا تغيّر كثيرا حين يقف المتهم أمام منصة المحكمة.




